سورة العنكبوت - تفسير تفسير ابن كثير

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (العنكبوت)


        


{خَلَقَ اللَّهُ السَّمَوَاتِ وَالأرْضَ بِالْحَقِّ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ (44) اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ (45)}.
يقول تعالى مخبرا عن قدرته العظيمة: أنه خلق السموات والأرض بالحق، يعني: لا على وجه العبث واللعب، {لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى} [طه: 15]، {لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى} [النجم: 31].
وقوله: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ} أي: لدلالة واضحة على أنه تعالى المتفرد بالخلق والتدبير والإلهية.
ثم قال تعالى آمرا رسوله والمؤمنين بتلاوة القرآن، وهو قراءته وإبلاغه للناس: {وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ} يعني: أن الصلاة تشتمل على شيئين: على ترك الفواحش والمنكرات، أي: إن مواظبتها تحمل على ترك ذلك. وقد جاء في الحديث من رواية عمران، وابن عباس مرفوعا: «مَنْ لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر، لم تزده من الله إلا بعدا».
ذكر الآثار الواردة في ذلك:
قال ابن أبي حاتم: حدثنا محمد بن هارون المخرمي الفلاس، حدثنا عبد الرحمن بن نافع أبو زياد، حدثنا عمر بن أبي عثمان، حدثنا الحسن، عن عمران بن حصين قال: سُئِل النبي صلى الله عليه وسلم عن قول الله: {إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} قال: «مَنْ لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر، فلا صلاة له».
وحدثنا علي بن الحسين، حدثنا يحيى بن أبي طلحة اليربوعي حدثنا أبو معاوية، عن ليث، عن طاوس، عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مَنْ لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر، لم يزدد بها من الله إلا بعدا».
ورواه الطبراني من حديث أبي معاوية.
وقال ابن جرير: حدثنا القاسم، حدثنا الحسين، حدثنا خالد بن عبد الله، عن العلاء بن المسيب، عمن ذكره، عن ابن عباس في قوله: {إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} قال: فَمَنْ لم تأمره صلاته بالمعروف وتنهه عن المنكر، لم يزدد بصلاته من الله إلا بعدا. فهذا موقوف.
قال ابن جرير: وحدثنا القاسم، حدثنا الحسين، حدثنا علي بن هاشم بن البريد، عن جويبر، عن الضحاك، عن ابن مسعود، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لا صلاة لِمَنْ لم يطع الصلاة، وطاعة الصلاة أن تنهى عن الفحشاء والمنكر». قال: وقال سفيان: {قَالُوا يَا شُعَيْبُ أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ} [هود: 87] قال: فقال سفيان: أي والله، تأمره وتنهاه.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو سعيد الأشَجّ، حدثنا أبو خالد، عن جويبر، عن الضحاك، عن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم- وقال أبو خالد مَرَّة: عن عبد الله-: «لا صلاة لِمَنْ لم يطع الصلاة، وطاعة الصلاة تنهاه عن الفحشاء والمنكر».
والموقوف أصح، كما رواه الأعمش، عن مالك بن الحارث، عن عبد الرحمن بن يزيد قال: قيل لعبد الله: إن فلانا يطيل الصلاة؟ قال: إن الصلاة لا تنفع إلا من أطاعها.
وقال ابن جرير: قال علي: حدثنا إسماعيل بن مسلم، عن الحسن قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من صلى صلاة لم تنهه عن الفحشاء والمنكر، لم يزدد بها من الله إلا بُعْدا».
والأصح في هذا كله الموقوفات عن ابن مسعود، وابن عباس، والحسن وقتادة، والأعمش وغيرهم، والله أعلم.
وقال الحافظ أبو بكر البزار: حدثنا يوسف بن موسى، حدثنا جرير- يعني ابن عبد الحميد- عن الأعمش، عن أبي صالح قال: أراه عن جابر- شك الأعمش- قال: قال رجل للنبي صلى الله عليه وسلم: إن فلانا يصلي فإذا أصبح سرق، قال: «سينهاه ما يقول».
وحدثنا محمد بن موسى الحَرشي حدثنا زياد بن عبد الله، عن الأعمش عن أبي صالح، عن جابر، عن النبي صلى الله عليه وسلم بنحوه- ولم يشك- ثم قال: وهذا الحديث قد رواه غير واحد عن الأعمش واختلفوا في إسناده، فرواه غير واحد عن الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة أو غيره، وقال قيس عن الأعمش، عن أبي سفيان، عن جابر، وقال جرير وزياد: عن عبد الله، عن الأعمش، عن أبي صالح، عن جابر.
وقال الإمام أحمد: حدثنا وَكِيع، حدثنا الأعمش قال: أنبأنا أبو صالح عن أبي هريرة قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إن فلانا يصلي بالليل فإذا أصبح سرق؟ فقال: «إنه سينهاه ما يقول».
وتشتمل الصلاة أيضا على ذكر الله تعالى، وهو المطلوب الأكبر؛ ولهذا قال تعالى: {وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ} أي: أعظم من الأول، {وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ} أي: يعلم جميع أقوالكم وأعمالكم.
وقال أبو العالية في قوله: {إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ}، قال: إن الصلاة فيها ثلاث خصال فكل صلاة لا يكون فيها شيء من هذه الخلال فليست بصلاة: الإخلاص، والخشية، وذكر الله. فالإخلاص يأمره بالمعروف، والخشية تنهاه عن المنكر، وذكر القرآن يأمره وينهاه.
وقال ابن عَوْن الأنصاري: إذا كنت في صلاة فأنت في معروف، وقد حجزتك عن الفحشاء والمنكر، والذي أنت فيه من ذكر الله أكبر.
وقال حماد بن أبي سليمان: {إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} يعني: ما دمت فيها.
وقال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس في قوله: {وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ}، يقول: ولذكر الله لعباده أكبر، إذا ذكروه من ذكرهم إياه.
وكذا روى غير واحد عن ابن عباس. وبه قال مجاهد، وغيره.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو سعيد الأشج، حدثنا أبو خالد الأحمر، عن داود بن أبي هند، عن رجل، عن ابن عباس: {وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ} قال: ذكر الله عند طعامك وعند منامك. قلت: فإن صاحبًا لي في المنزل يقول غير الذي تقول: قال: وأي شيء يقول؟ قلت: قال: يقول الله: {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ} [البقرة: 152]، فلذكر الله إيانا أكبر من ذكرنا إياه. قال: صدق.
قال: وحدثنا أبي، حدثنا النفيلي، حدثنا إسماعيل، عن خالد، عن عِكْرِمة، عن ابن عباس في قوله: {وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ} قال: لها وجهان، قال: ذكر الله عندما حرمه، قال: وذكر الله إياكم أعظم من ذكركم إياه.
وقال ابن جرير: حدثني يعقوب بن إبراهيم، حدَّثنا هُشَيْم، أخبرنا عطاء بن السائب، عن عبد الله بن ربيعة قال: قال لي ابن عباس: هل تدري ما قوله تعالى: {وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ}؟ قال: قلت: نعم. قال: فما هو؟ قلت: التسبيح والتحميد والتكبير في الصلاة، وقراءة القرآن، ونحو ذلك. قال: لقد قلت قولا عجبًا، وما هو كذلك، ولكنه إنما يقول: ذكر الله إياكم عندما أمر به أو نهى عنه إذا ذكرتموه، أكبر من ذكركم إياه.
وقد روي هذا من غير وجه عن ابن عباس. وروي أيضا عن ابن مسعود، وأبي الدرداء، وسلمان الفارسي، وغيرهم. واختاره ابن جرير.


{وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنزلَ إِلَيْنَا وَأُنزلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (46)}.
قال قتادة وغير واحد: هذه الآية منسوخة بآية السيف، ولم يبق معهم مجادلة، وإنما هو الإسلام أو الجزية أو السيف.
وقال آخرون: بل هي باقية أو محكمة لِمَنْ أراد الاستبصار منهم في الدين، فيجادل بالتي هي أحسن، ليكون أنجع فيه، كما قال تعالى: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} [النحل: 125]، وقال تعالى لموسى وهارون حين بعثهما إلى فرعون: {فَقُولا لَهُ قَوْلا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} [طه: 44]. وهذا القول اختاره ابن جرير، وحكاه عن ابن زيد.
وقوله: {إِلا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ} أي: حادوا عن وجه الحق، وعَمُوا عن واضح المحجة، وعاندوا وكابروا، فحينئذ ينتقل من الجدال إلى الجلاد، ويقاتلون بما يردعهم ويمنعهم، قال الله تعالى: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنزلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ} [الحديد: 25].
قال جابر: أمرْنَا من خالف كتاب الله أن نضربه بالسيف.
قال مجاهد: {إِلا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ} يعني: أهل الحرب، وَمَنِ امتنع منهم عن أداء الجزية.
وقوله: {وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنزلَ إِلَيْنَا وَأُنزلَ إِلَيْكُمْ}، يعني: إذا أخبروا بما لا يعلم صدقه ولا كذبه، فهذا لا نُقدم على تكذيبه لأنه قد يكون حقا، ولا على تصديقه، فلعله أن يكون باطلا ولكن نؤمن به إيمانا مجملا معلقا على شرط وهو أن يكون منزلا لا مبدلا ولا مؤولا.
وقال البخاري، رحمه الله: حدثنا محمد بن بشار، حدثنا عثمان بن عُمَر، أخبرنا علي بن المبارك، عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة، رضي الله عنه قال: كان أهل الكتاب يقرؤون التوراة بالعبرانية، ويفسرونها بالعربية لأهل الإسلام، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تصدقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم، وقولوا: آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إليكم، وإلهنا وإلهكم واحد، ونحن له مسلمون». وهذا الحديث تفرَّد به البخاري.
وقال الإمام أحمد: حدثنا عثمان بن عُمَر، أخبرنا يونس، عن الزهري، أخبرني ابن أبي نملة أن أبا نَمْلَةَ الأنصاري أخبره، أنه بينما هو جالس عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، جاءه رجل من اليهود، فقال: يا محمد، هل تتكلم هذه الجنازة؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الله أعلم». قال اليهودي: أنا أشهد أنها تتكلم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا حدثكم أهل الكتاب فلا تصدقوهم ولا تكذبوهم، وقولوا: آمنا بالله ورسله وكتبه، فإن كان حقًّا لم تكذبوهم، وإن كان باطلا لم تصدقوهم».
قلت: وأبو نَمْلَةَ هذا هو: عُمَارة. وقيل: عمار. وقيل: عمرو بن معاذ بن زُرَارة الأنصاري، رضي الله عنه.
ثم ليعلم أن أكثر ما يُحدّثون به غالبُه كذب وبهتان؛ لأنه قد دخله تحريف وتبديل وتغيير وتأويل، وما أقل الصدق فيه، ثم ما أقل فائدة كثير منه لو كان صحيحا.
قال ابن جرير: حدثنا ابن بشار، حدثنا أبو عاصم، حدثنا سفيان، عن سليمان بن عامر، عن عمارة بن عمير، عن حُرَيْث بن ظهير، عن عبد الله- هو ابن مسعود- قال: لا تسألوا أهل الكتاب عن شيء، فإنهم لن يهدوكم وقد ضلوا، إما أن تكذبوا بحق أو تصدقوا بباطل، فإنه ليس أحد من أهل الكتاب إلا وفي قلبه تالية، تدعوه إلى دينه كتالية المال.
وقال البخاري: حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا إبراهيم بن سعد، أخبرنا ابن شهاب، عن عبيد الله بن عبد الله، عن ابن عباس قال: كيف تسألون أهل الكتاب عن شيء، وكتابكم الذي أنزل على رسوله صلى الله عليه وسلم أحدث تقرؤونه محضا لم يُشَب، وقد حدَثَكم أن أهل الكتاب بدَّلوا كتاب الله، وغيروه وكتبوا بأيديهم الكتاب، وقالوا: هو من عند الله، ليشتروا به ثمنا قليلا؟ ألا ينهاكم ما جاءكم من العلم عن مسألتهم؟ لا والله ما رأينا منهم رجلا يسألكم عن الذي أنزل عليكم.
وقال البخاري: وقال أبو اليمان: أخبرنا شعيب، عن الزهري، أخبرني حُمَيد بن عبد الرحمن: أنه سمع معاوية يحدث رهطا من قريش بالمدينة- وذكرَ كعبَ الأحبار- فقال: إن كان من أصدق هؤلاء المحدثين الذين يحدثون عن أهل الكتاب، وإن كنا مع ذلك لنبلو عليه الكذب.
قلت: معناه أنه يقع منه الكذب لغة من غير قصد؛ لأنه يحدث عن صحف هو يحسن بها الظن، وفيها أشياء موضوعة ومكذوبة؛ لأنهم لم يكن في ملتهم حفاظ متقنون كهذه الأمة العظيمة، ومع ذلك وقرب العهد وضعت أحاديث كثيرة في هذه الأمة، لا يعلمها إلا الله ومن منحه الله علما بذلك، كل بحسبه، ولله الحمد والمنة.


{وَكَذَلِكَ أَنزلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ فَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمِنْ هَؤُلاءِ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلا الْكَافِرُونَ (47) وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ (48) بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلا الظَّالِمُونَ (49)}.
قال ابن جرير: يقول الله تعالى: كما أنزلنا الكُتُب على مَنْ قبلك- يا محمد- من الرسل، كذلك أنزلنا إليك هذا الكتاب.
وهذا الذي قاله حسن ومناسبة وارتباط جيد.
وقوله: {فَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يُؤْمِنُونَ بِهِ} أي: الذين أخذوه فتلَوْه حق تلاوته من أحبارهم العلماء الأذكياء، كعبد الله بن سلام، وسلمان الفارسي، وأشباههما.
وقوله: {وَمِنْ هَؤُلاءِ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ}، يعني العرب من قريش وغيرهم، {وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلا الْكَافِرُونَ}، أي: ما يكذب بها ويجحد حقها إلا مَنْ يستر الحق بالباطل، ويغطي ضوء الشمس بالوصائل، وهيهات.
ثم قال تعالى: {وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ}، أي: قد لبثت في قومك- يا محمد- ومن قبل أن تأتي بهذا القرآن عُمرا لا تقرأ كتابا ولا تحسن الكتابة، بل كل أحد من قومك وغيرهم يعرف أنك رجل أمي لا تقرأ ولا تكتب.
وهكذا صفته في الكتب المتقدمة، كما قال تعالى: {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ} الآية [الأعراف: 157].
وهكذا كان، صلوات الله وسلامه عليه دائما أبدا إلى يوم القيامة، لا يحسن الكتابة ولا يخط سطرا ولا حرفا بيده، بل كان له كتاب يكتبون بين يديه الوحي والرسائل إلى الأقاليم. ومن زعم من متأخري الفقهاء، كالقاضي أبي الوليد الباجي ومن تابعه أنه عليه السلام، كتب يوم الحديبية: «هذا ما قاضى عليه محمد بن عبد الله» فإنما حمله على ذلك رواية في صحيح البخاري: «ثم أخذ فكتب»: وهذه محمولة على الرواية الأخرى: «ثم أمر فكتب». ولهذا اشتد النكير بين فقهاء المغرب والمشرق على من قال بقول الباجي، وتبرؤوا منه، وأنشدوا في ذلك أقوالا وخطبوا به في محافلهم: وإنما أراد الرجل- أعني الباجي، فيما يظهر عنه- أنه كتب ذلك على وجه المعجزة، لا أنه كان يحسن الكتابة، كما قال، عليه الصلاة والسلام إخبارا عن الدجال: «مكتوب بين عينيه كافر» وفي رواية: «ك ف ر، يقرؤها كل مؤمن»، وما أورده بعضهم من الحديث أنه لم يمت، عليه السلام حتى تعلم الكتابة، فضعيف لا أصل له؛ قال الله تعالى: {وَمَا كُنْتَ تَتْلُو} أي: تقرأ {مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ} لتأكيد النفي، {وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ} تأكيد أيضا، وخرج مخرج الغالب، كقوله تعالى: {وَلا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ} [الأنعام: 38].
وقوله: {إِذًا لارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ} أي: لو كنت تحسنها لارتاب بعض الجهلة من الناس فيقول: إنما تعلم هذا من كُتب قبله مأثورة عن الأنبياء، مع أنهم قالوا ذلك مع علمهم بأنه أمي لا يحسن الكتابة: {وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الأوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلا} [الفرقان: 5]، قال الله تعالى: {قُلْ أَنزلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ إِنَّهُ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا} [الفرقان: 6]، وقال هاهنا: {بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ} أي: هذا القرآن آيات بينة واضحة في الدلالة على الحق، أمرًا ونهيًا وخبرًا، يحفظه العلماء، يَسَّره الله عليهم حفظًا وتلاوةً وتفسيرًا، كما قال تعالى: {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ} [القمر: 17]، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما مِنْ نبي إلا وقد أعطي ما آمن على مثله البشر وإنما كان الذي أوتيته وحيًا أوحاه الله إليَّ، فأرجو أن أكون أكثرهم تابعا».
وفي حديث عياض بن حمار، في صحيح مسلم: «يقول الله تعالى: إني مبتليك ومبتل بك، ومنزل عليك كتابًا لا يغسله الماء، تقرؤه نائما ويقظان». أي: لو غسل الماء المحلَّ المكتوب فيه لما احتيج إلى ذلك المحل، كما جاء في الحديث الآخر: «لو كان القرآن في إهاب، ما أحرقته النار»، لأنه محفوظ في الصدور، ميسر على الألسنة، مهيمن على القلوب، معجز لفظًا ومعنى؛ ولهذا جاء في الكتب المتقدمة، في صفة هذه الأمة: «أناجيلهم في صدورهم».
واختار ابن جرير أن المعنى في قوله تعالى: {بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ}، بل العلم بأنك ما كنت تتلو من قبل هذا الكتاب كتابًا ولا تخطه بيمينك، آيات بينات في صدور الذين أوتوا العلم من أهل الكتاب. ونقله عن قتادة، وابن جريج. وحكى الأول عن الحسن البصري فقط.
قلت: وهو الذي رواه العوفي عن عبد الله بن عباس، وقاله الضحاك، وهو الأظهر، والله أعلم.
وقوله: {وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلا الظَّالِمُونَ} أي: ما يكذب بها ويبخس حقها ويردها إلا الظالمون، أي: المعتدون المكابرون، الذين يعلمون الحق ويحيدون عنه، كما قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ. وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الألِيمَ} [يونس: 96، 97].

1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8